الإرهاب ... في التعريف بالظاهرة وأسبابها
داهمت أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر المجتمع الدولي قبل أن يفرغ من الجدل حول تعريف الإرهاب وتحديد ماهيته وأسبابه والتوافق على وسائل وأشكال مقاومته ... وتكمن جذور الاختلاف والتباين حول فهم هذه العناوين ، إلى اختلاف المصالح وتضاربها من جهة ، وإلى التباين الثقافي وتنوع الموروث الحضاري للدول والشعوب من جهة ثانية ، فضلا عن الإرث الكولونيالي العميق الذي خلف آثارا سلبية قد لا تمحى في المدى المنظور ، سيما مع بقاء الدول المستعمرة سابقا في أسفل درجات سلم التطور الاقتصادي والاجتماعي العالمي.
بيد أن هذا الخلاف في تحديد مفهوم الإرهاب ، لم يمنع من التوصل إلى ما يشبه التوافق العالمي على بعض محددات وعناصر التعريف ... فالعرب والمسلمون في غالبيتهم الساحقة يشاطرون الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال رؤيته بأن الإرهاب هو كل فعل أو سلوك يستهدف ترويع المدنيين الأبرياء وإلحاق الأذى بأرواحهم وممتلكاتهم ، بغرض تحقيق أهداف سياسية ... إذ باستثناء فئة قليلة من الرأي العام العربي والإسلامي ، تقدرها بعض الدراسات والاستطلاعات بحوالي عشرة بالمائة ، تتسم موقف مواقفها بالغلو والتطرف ، فإن الاتجاهات الرئيسة للرأي العام في هذه الدول تأخذ بهذا التعرف ، وتتخذ في العادة مواقف منددة بالإرهاب ورافضة لوسائله أيا كانت استهدافاته ، وأيا بلغت عدالة الشعارات المرفوعة لتبريره أو تسويقه وتسويغه.
وتميل غالبية المحللين والحقوقيين إلى الأخذ بفرضية أن الجهة المؤهلة لتحديد تعريف عالمي للإرهاب هي المنظمة الدولية ، وربما لهذا السبب بالذات دعت كثير من الدول العربية والإسلامية إلى ضرورة عقد مؤتمر دولي لتعريف الإرهاب ، وإصدار ميثاق عالمي يحرم رعايته والتواطؤ معه او التساهل الإرهابيين ومموليهم ورعاتهم .... فالأمم المتحدة هي الأداة الرئيسة المفترضة لتنظيم إرادة المجتمع الدولي وصون التوازن بين مصالح شعوبه ودوله ، وهي الأداة الشرعية الوحيدة المعترف بها لرسم السياسات وإرساء القواعد الناظمة للعلاقات الدولية وحقوق الدول والشعب والأفراد.
والإرهاب لا يستهدف فقط تحقيق أغراض سياسية ، فثمة جماعات إرهابية سعت في سبيل تحقيق أهداف اقتصادية واجتماعية بوسائل عنفية ، كما أن جماعات أخرى تورطت في أعمال إرهابية بدوافع عقيدية وأيولوجية ، أو لإحساسها بالتفوق ، دينيا كان أم عرقيا.
وبهذا المعاني ، يميل كثير من الخبراء إلى الأخذ بفرضية أن الإرهاب عمل منظم ، لتمييزه عن ممارسات وسلوكيات فردية معزولة ، تقوم به جماعات ومنظمات وأحزاب يرتبط نشوءها بقضية سياسية أو وطنية أو إيديولوجية أو اجتماعية ... بيد أن كثيرين يرون وللأسباب ذاتها أن الإرهاب ليس حكرا على جماعات وفصائل بل يمكن لدول وحكومات أن تتورط في ممارسته ورعايته ، سواء لاستهداف شعوبها أو معارضيها ، أو باعتباره أداة من أدوات سياستها الخارجية ، وفي التاريخ الحديث عشرات الأمثلة على تورط حكومات ديكتاتورية على ممارسة أبشع صنوف الإرهاب ضد معارضيها ، وحكومات تدخلية لجأت للإرهاب وسيلة لتصفية حساباتها ونزاعاتها مع دول مجاورة.
والإرهاب بهذه المعاني ليس حكرا على شعب أو لون أو دين أو طائفة أو حضارة ... فقد واجهت البشرية على امتداد تاريخها الحديث أعمال وممارسات إرهابية قامت بها دول وجماعات ومنظمات تنتمي لمختلف القارات والأديان والثقافات والحضارات ، وتفضي محاولات بعض الدوائر الإعلامية والسياسية إلصاق صفة الإرهاب بالعروبة والإسلام ، إلى تنامي مشاعر الغضب والاستياء في أوساط العرب والمسلمين ، وتفاقم إحساسهم بالظلم والاستهداف ، فضلا عن ضيقهم بما أصبح يعرف بالمعايير المزدوجة وسياسة الكيل بمكيالين التي تعتمدها بعض المراكز الدولية في النظر لمشكلاتهم وقضاياهم.
ومما لا شك فيه أن استشراء هذه النزعات ، لن تكون له من نتيجة سوى تعميق الإحساس بأن ما يجري على المسرح الدولي من حرب على الإرهاب ليس في واقع الحال سوى لون من ألوان " صدام الحضارات " ، وأن الحرب على الإرهاب ليست في واقع الحال سوى حرب على الإسلام والمسلمين ، ويتغذى هذا الإحساس بفيض المقالات والدراسات والتقارير التي تضخها وسائل الإعلام حول المكون الإسلامي لظاهرة الإرهاب الدولي ، والأخطاء التي يقع فيها بعض المسؤولين الغربيين عند الحديث عن الإرهاب والحرب عليه والتي لا تميز في بعض الأحيان بين جماعات إرهابية معزولة والكتلة العربية الإسلامية الرئيسة.
ويزداد العرب والمسلمون ضيقا ببعض الخطاب الغربي الذي لا يفرق عادة بين الإرهاب المدان والمقاومة المشروعة ، فالشعوب الخاضعة لنير الاحتلال من حقها وفقا للشرائع السماوية والوضعية ، وفقا لمواثيق الأمم المتحدة ، أن تخوض كفاحا عادلا ومشروعا في سبيل الحرية والاستقلال والانعتاق ... ويشعر المسلمون خصوصا بأنهم المستهدفون بعدم التمييز بين الإرهاب والمقاومة بحكم أن معظم المشكلات الناجمة عن الاحتلال والقهر الخارجي تقع في مناطقهم ، من البلقان وحتى فلسطين مرورا بشبه القارة الهندية والقوقاز.
وبرغم أن المواثيق الدولية وقرارات الجمعية العام للأمم المتحدة اعترافت بحق الشعوب المستعمرة والخاضعة للاحتلال بالمقاومة ، بل ووفرت لهذه المقاومة الدعم والاسناد والاعتراف الدولي المناسب ، إلا أن الخطاب الغربي الحديث المناهض للإرهاب يميل عادة لتجاهل الفرق بينه وبين المقاومة ، بل ويصل في بعض الأحيان إلى حد وصف المقاومة المشروعة بالإرهاب.
وتساعد بعض الممارسات الخاطئة التي تقارفها قوى التحرر الوطني للشعوب المستعمرة ، في إذكاء هذه الحملة ضد المقاومة ، وتعطي في بعض الأحيان مبررات كافية للخلط بين المقاومة المشروعة والإرهاب المدان ... فاستهداف المدنيين في المستعمرة " بكسر العين " هو بكل تأكيد عمل يفتقر لأي مبرر سياسي أو أخلاقي ، بل ويصيب عدالة القضية المطروحة بشرخ عميق ، وقد دللت وقائع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على عمق الأضرار الناجمة عن تجاوز قوى المقاومة لبعض الثوابت والمحددات الأخلاقية في الصراع ، كما أن تجربة الشعب الشيشاني في الكفاح لتقرير المصير اختلطت بكثير من الممارسات التي لا تخدم أبدا مثل هذه القضاي.
إن همجية الاحتلال ، وتنافيه المطلق مع قيم العدالة والحق والشرعية الدولية ، لا تبرر أبدا اللجوء إلى وسائل " ملتبسة " مثيرة للسخط والغضب في مقاومة الاحتلال ... صحيح أن الاحتلال ، خصوصا الاستيطاني منه ، هو جريمة حرب بكل المقاييس ، لكن الصحيح أيضا أن مقاومة الجريمة لا يكون أبدا بمقارفة جريمة أخرى ... ومن الأسلم للشعوب الطامحة للاستقلال أن تضبط خطواتها على إيقاع الشرعية الدولية ، إطارا ومرجعيات ووسائ.
لقد دللت تجربة الأسابيع القليلة الماضية أن لجؤ بعض الفصائل الفلسطينية إلى استهداف المدنيين في عملياتها الانتحارية كانت له نتائج سلبية شديدة الضرر على صورة النضال التحرري للشعب الفلسطيني ، وأكسب سلطات الاحتلال ذرائع إضافية للبطش والتنكيل وممارسة العقوبات الجماعية ضد الشعب الفلسطيني الأعزل ... في حين جاءت التطورات اللاحقة لقرار السلطة الفلسطينية وقف إطلاق النار واستجابة القوى الرئيسة للشعب الفلسطيني لهذا القرار ومقتضياته ، لتعيد الاعتبار لقضية هذا الشعب وكفاحه العادل والمشروع ... ولتنزع عنه سمة الإرهاب التي حاول بعض الغلاة والمتعصبين في إسرائيل وصمه بها عن غير حق.
لقد أوضح البطريرك ميشال صباح هذه الحقيقة في عظة الميلاد المجيد من بيت لحم حين قال بأن تعبير الإرهاب أصبح وسيلة لإخفاء النوايا المناهضة للسلام عند بعد من يطلقونه في إسرائيل.
وأيا يكن من أمر ، فإن الإرهاب الذي تحول إلى ظاهرة عالمية خطرة ، بات يملي تعاونا دوليا من أجل مكافحته وإجهاضه ... ولعل تعريفا دوليا توافقيا في إطار الأمم المتحدة لهذا المفهوم بكل أبعاده ، يمكن أن يشكل بداية موفقة لتعاون دولي مثمر ومستدام من أجل القضاء على هذه الآفة.
والراهن أن الاعتقاد السائد دوليا يميل إلى ضرورة اعتماد سياسات ومداخل لمقاومة هذه الظاهرة ، تتعدى حدود الإجراءات الأمنية والعسكرية ... فقد دللت التجربة البشرية على أن أقصر الطرق لمكافحة الإرهاب والغلو المفضي إليه ، تكمن في معالجة مسبباته ، وتجفيف التربة التي ينمو بداخلها قبل أن ينتقل إلى سطحها ... وهنا تبرز القيمة الإنسانية العظمية للدعوات الرامية لمحاربة الفقر والمرض والجوع والتخلف في دول العالم الثالث ، خصوصا الأكثر فقرا منها ... كما تبرز الحاجة لحل المشكلات والنزاعات الإقليمية المتفاقمة التي كانت سببا وذريعة في نشوء الإرهاب أو تعميمه وتدعيمه بتأييد قطاعات شعبية ... ولعل حلا عادلا وشاملا لقضية الصراع العربي الإسرائيلي وفي المقدمة منه قضية فلسطين يمكن أن يوفر مدخلا بالغ الأهمية لتجفيف كثير من منابع الإرهاب والتطرف.
كما دللت التجربة البشرية أن الإرهاب يجد في البيئة الاستبدادية للأنظمة والحكومات القمعية والدكتاتورية الفاسدة ، حاضنة طبيعية لنموه وانتشاره السريعين ... فالقمع والاستبداد وانسداد قنوات المشاركة والتعددية السياسة وانتشار مظاهر الفقر والتمييز والتهمييش ، وانعدام فرص العمل ، جميعها أسباب تدفع نحو التطرف وتفضي إلى نمو حركات إرهابية وتعمق الاستعداد لدى الشباب خصوصا للوقوع في هذا المستنقع.
إن الرد على الإرهاب لن يكون بوسائل أمنية عسكرية زاجرة ورادعة ، ولا يكون بتقليص مساحات الحرية والديمقراطية ، أو بالتطاول على حقوق الانسان وانتهاكها ... فالبعد الأمني والتقني ، هو بعد واحد فقط من أبعاد المواجهة المتعددة لهذه الظاهرة ، وهو في مطلق الأحوال ليس أكثرها أهمية كونه يتعامل مع النتائج ، في حين يجدر بالبشرية جمعاء أن تتعامل مع مسببات هذه الظاهرة بانتهاج سياساته وقائية تمنع تفشي الآفة وتقضي عليها في المهد ، وقديما قيل درهم وقاية خير من قنطار علاج.