كلمة ترحيبية
في البدء كانت "الفكرة" ... و"الفكرة" كانت أقرب إلى الحلم أو بالأحرى إلى المغامرة ... هل يمكن لمجموعة صغيرة لا تزيد عن أصابع اليد الواحدة، وبموارد مالية تكاد تقترب من الصفر، أن تشرع في تأسيس مركز للدراسات، يتطلع للقيام بدور رائد في توفير "فهم أعمق وأدق" لقضايا الأردن والشرق الأوسط؟ ... لم نتردد في الإجابة على هذا السؤال، وشرعنا في محاولات متكررة للحصول على الموافقات و"التراخيص" اللازمة، إلى أن كان لنا ما أردنا في مختتم العام 1999.
لم نمض طويل وقت، أو نصرف كبير عناء في تحديد أولوياتنا وبرامجنا، فنحن نعمل في بقعة من العالم، عانت لأكثر من نصف قرن، من الركود والتخلف، في ظل أنظمة الفساد والاستبداد، في ظل فشل دول وحكومات وأنظمة "ما بعد الاستقلالات العربية" في بناء "دولة الأمة"، دولة جميع مواطنيها من دون استثناء أو تمييز ... دولة تعترف بالحقوق الفردية والجماعية لمكوناتها وتصون حرياتهم الأساسية، وتعمل على تعميق مشاركتهم السياسية ... دولة التنمية البشرية بمختلف أبعادها ... دولة العدالة الاجتماعية التي صارت شعاراً ناظماً لجميع الحراكات الشبابية والشعبية في مختلف الدول العربية.
قلنا إن الإصلاح السياسي والتحوّل الديمقراطي، هو برنامج عملنا الرئيس، فدفع هذا الخيار محلياً وإقليمياً، كان الهدف الأول لنا منذ اليوم الأول للتأسيس، لم ندّع حياداً زائفاً أو شكلياً في هذا المجال ... فالمركز نشأ وتطور في سياق تصديه لهذه المهمة، بالتعاون والتنسيق والتحالف، مع مختلف الشركاء في هذه العملية ... وبنينا برنامجنا هذا على أعمدة ثمانية، تبدأ بإصلاح العملية الانتخابية ومراقبة أداء البرلمان، وتمر بتمكين الأحزاب السياسية وإصلاح البيئة التشريعية الناظمة لعملها، فضلاً عن رصد الانتهاكات الناعمة والخشنة لحرية الصحافة واستقلالية وسائل الإعلام، وانتهاء ببرامج تمكين النساء والشباب والأقليات، ومؤسسات المجتمع المدني.
وإذ ننظر قليلاً للوراء، فإن شعور بالفخر ينتابنا لكون مركز القدس للدراسات السياسية كان المبادر إلى إطلاق مشروع "نحو خطاب إسلامي ديمقراطي مدني"، منطلقاً من فرضية أن لا ديمقراطية من دون الإسلاميين، ولا ديمقراطية، إن لم يتبن هؤلاء قيم الحرية وقواعد اللعبة الديمقراطية، وذلك قبل ست سنوات من اندلاع شرارة الربيع العربي، ولقد انخرطت في أنشطة هذا المشروع وفعالياته، مئات الشخصيات السياسية والبرلمانية والأكاديمية والاجتماعية من أكثر من خمسة عشرة دولة عربية.
واحتلت الصراعات والنزاعات الإقليمية، مكانة الصدارة في اهتماماتنا وأولوياتنا منذ التأسيس، فقد فرضة "ديكتاتورية الجغرافيا" علينا، كما على الأردن ككل، إيلاء اهتمام مركزي بقضية شعب فلسطين وكفاحه من أجل الحرية والاستقلال، كما فرضت قضايا المنطقة، نفسها على جدول أعمالنا، من دون أن نسعى إليها.
والحقيقة أن تأسيس مركز القدس للدراسات السياسية، لم يكن "مغامرتنا" الأولى، قبل ذلك بأكثر من عشرين عاماً، بدأت المحاولة الأولى من بيروت، وهي محاولة لم تكتمل، وقطع الاجتياح الإسرائيلي للبنان واحتلال بيروت، الطريق عليها ... لنعيد الكرة بعد سبع سنوات في قبرص، وهي المحاولة التي استمرت لأربع سنوات، وكان لها رصيد طيب من الإنجاز، قبل أن تحط رحالنا في عمان من جديد، لنواصل رحلة المتاعب.
لقد نجح مركز القدس للدراسات السياسية في تكريس حضوره كلاعب رئيس على ساحة العمل الفكري والسياسي والأكاديمي، بعد أن اختار لنفسه، منزلة وسط، بين الأكاديميا ونشاط الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، وارتضى لنفسه دور الجسر الواصل بين الجهتين، وعمل جاهداً على إثراء الجدل الوطني العام بالمزيد من الأفكار والمقترحات، السياسات ومشاريع التشريعات، التي من شأنها تسريع وتعميق مسار التحول الديمقراطي في بلادنا.
ولعله من مصادر ارتياحنا واعتزازنا، أن مركز القدس للدراسات السياسية، نجح في احتلال مكانة مرموقة على الخريطة العربية، وصار في عداد المراكز المستقلة المحدودة، التي تتصدر المشهد العربي، بما له من علاقات ونشاطات تخطت البعد المحلي إلى الفضاء القومي / الإقليمي الأرحب ... وفي هذا السياق، جاء افتتاح مركز القدس للدراسات السياسية في العام 2012، ليكون مؤسسة شقيقة، تسهم في توسيع الأفق الإقليمي لبرامج المركز وأنشطته.
إن النجاح المتواصل للمركز، هو الثمرة الطبيعية للجهود المتواصلة التي بذلها المؤسسون، وجميع من التحق بصفوف المركز من العاملين، والشبكة الأوسع والأعرض من الأصدقاء والمتعاونين، الذين كان لكل واحد منهم، بصمته الخاصة في هذه المسيرة، فلكل هؤلاء، أصدق مشاعر التحية والتقدير والوفاء.
والعهد أن نستمر في مسيرة الإنجاز والريادة، وأن نحفظ صدقية المركز واستقلاليته، وأن نرقى بأدائنا إلى مستوى الثقة التي منحنا لنا كل من تعاملنا معه، من شركاء وحلفاء وأصدقاء ومستفيدين ... وأن نظل كما عهدتمونا: الأوائل في طرق الموضوعات الأكثر أهمية، مهما بلغت حساسيتها، والأكثر انفتاحاً على مختلف مكونات شعوبنا ومجتمعاتنا واتجاهاتها وتياراتها، مؤمنين بأن التنوع مصدر ثراء لحياتنا الروحية والمادية، واثقين من قدرتنا على إدارة هذا التنوع والاغتناء به، إلى أن تتحقق لشعوبنا ومجتمعاتنا، ما حلمت به من أهداف وتطلعات.