مقالات > > اللحظة السودانية الحرجة
مقالات - أخرى- التاريخ: 2019-04-13
ذات حوار مع أصدقاء سودانيين "دبلوماسيين" حدث في ذروة الأزمة السودانية، اقترحت عليهم ما يلي: (1) يعلن الرئيس البشير قراره بعدم الترشح لانتخابات 2020 ويوقف إجراءات تعديل الدستور الذي يمكنه من ولاية جديدة ... (2) يعلن البشير أن الفترة المتبقية من ولايته الحالية، ستخصص لتدبير الانتقال، فيدعو لحوار وطني ملزم، ينتهي إلى خريطة طريق، تشتمل على دستور جديد للبلاد، يخضع للاستفتاء العام، أو يصدر عن جمعية تأسيسية منتخبة ... (3) إجراءات بناء ثقة مصاحبة: إطلاق سراح المعتقلين، وقف شامل لإطلاق النار في البلاد، إطلاق الحريات وغير ما هنالك.
بدت الفكرة لصديقي السودانيين، ضرباً من الخيال، واعترف أنها كانت بالنسبة لي شخصياً ضربا من الخيال كذلك، فلا أحد يفعلها في عالمنا العربي، وكيف لي أن أجرؤ على اقتراح قيام رئيس/جنرال في السلطة، بقيادة مرحلة انتقال تخرجه منها، طواعية وتحت ضغوط لم تكن قد اشتدت في حينه.
لو فعلها البشير، لدخل التاريخ من بوابة واسعة، لا أقول أوسع أبوابه ... ولكنه آثار التوغل في "حالة الانكار"، لو تتبع سيرة سلفه سوار الذهب، لكان استحق أن يقال فيه ما قيل في الجنرال الراحل، الزاهد بالسلطة: "عدلت فأمنت فنمت" ... لكنه قرر المضي في ممارسة هواية الرقص بالعصا والسيف، مهدداً ومتوعداً حيناً، ومطلقاً الوعود ذاتها في كثير من الأحيان، حتى وإن كان يدرك أكثر من غيره، بأن أحداً لم يعد يشتري تلك الوعود والتعهدات.
اليوم، تنتقل السلطة في السودان من جنرال إلى آخر، خريطة الطريق التي اقترحها ابن عوف، لا تبعث الطمأنينة في نفوس السودانيين، رُفضت فوراً ومن قبل الجميع تقريباً ... لماذا إعلان الطوارئ، المعلنة أصلاً، ولماذا حظر التجوال، المفروض مسبقاً، ولماذا الانتظار عامين اثنين، ولماذا الإيغال في "عسكرة" الحكم والانتقال في السودان ... أسئلة كثيرة، تشغل السودانيين وتبقيهم في الشوارع والميادين.
السودانيون ثاروا على "ثورة الإنقاذ"، وهي في الأصل انقلاب عسكري حمل اسم "الثورة" ... واليوم يواجه السودانيون خطر تحول "ثورتهم" إلى "انقلاب" ... حدث هذا من قبل في دول عربية مجاورة ... وحدث عدة مرات في السودان ذاتها ... هذه المرة، يبدو أن وعي السودانيين، تجاوز ألاعيب الجنرالات ووعودهم التي تشف عن نهم للسلطة وشغف للبقاء في قمة هرمها.
معركة الانتقال للديمقراطية في السودان، تبدو اليوم أشد صعوبة ... السودانيون راهنوا على "حياد" المؤسسة العسكرية واحتموا بها من مليشيات الحزب الحاكم ... اليوم، المؤسسة العسكرية في السلطة، والنظام لا يتغير بل يُعاد انتاجه، ويُعاد تدوير نخبه القديمة، والقول بأنه "أُقتلع" وأن "رأسه" قد وضع قيد التحفظ، ليس مقنعاً للسودانيين ... هذا حقيقة تبعث على الطمأنينة من جهة، وتثير القلق من جهة ثانية ... الطمأنينة لجهة أن السودانيين قرروا انتزاع مصيرهم وقرارهم بأنفسهم ... والقلق لأن المواجهة بين الشعب والنظام اليوم باتت "بلا وسيط"، والكثير يعتمد على الكيفية التي ستدير بها المؤسسة العسكرية معركة الانتقال.
السودان بلد كبير، بموقع استراتيجي، والأطماع فيه لا حدود لها ... ومن يتتبع القنوات الفضائية، يلحظ احتدام الصراع في السودان وعليه ... ومن مصلحة السودان، إدارة انتقال سلمي هادئ ومتدرج نحو الديمقراطية والحرية ... من مصلحة السودانيين بناء سدود في وجه التدخلات الإقليمية والدولية في شؤونه الداخلية، وعدم السماح بتحويل بلادهم إلى ساحة لتسوية الحسابات وتصفية الصراعات وحروب المحاور الإقليمية.
الكرة اليوم، في ملعب المؤسسة العسكرية، فبيدها أن يكون الانتقال توافقياً وسلمياً، وبيدها أن تحيل السودان إلى ليبيا ثانية، سوريا ثانية، يمن ثان، عراق ثان ... بيدها أن تحذو حذو تونس، وتقف على الحياد وتكتفي بدورها الدستوري في حماية الحدود والسيادة، وبيدها أن تجعل من نفسها جزءاً من المشكلة وسببا في تفاقهما ... حمى الله السودان والسودانيين.